قصة وقراءة
********
(قراءة في قصة "الرصاص الفارغ" للكاتب السوري المبدع سامر الشمالي)
الشاعره سمر احمد تغلبي
حمال الموسوي
مدير مكتب العراق
الرصاص الفارغ (سامر الشمالي)
-قف وإلا أطلقت النار.
صوت صرخ من خلف بقايا جدار متقوض.
وقف الطفل ورفع يديه الصغيرتين عالياً.
بعد هنيهة من سكون مريب خرج الرجل المسلح من مكمنه، وحدق بدهشة بالطفل النحيل ذي الثياب الرثة! ثم صاح به بصوت مبحوح:
– اذهب إلى منزلك.
-لم يعد لدينا منزل.
قال الطفل بأعلى صوته ليسمعه الرجل بوضوح.
قفز الرجل فوق الجدار، وسار بخطوات واسعة بين الأنقاض، وعندما حاذى الطفل سأله بجفاء:
-أين كان منزلك؟.
أشار الطفل بيده إلى مكان مازال يتصاعد منه الدخان الأسود دون أن يخطر في ذهنه ما يدور في رأس الرجل الذي علق سلاحه على كتفه وقال بلا مبالاة:
-حسناً.. اذهب والعب في مكان آخر.
-أنا لا ألعب.. أجمع الرصاص الفارغ وأبيعه لأشتري الخبز لإخوتي الصغار.
-أين والدك؟.
-قتل الأسبوع الماضي.
-هل كان مقاتلاً؟.
-كلا.. كان عاملاً في مصنع الأحذية.
فكر الرجل بأنه ربما هو من قتل والد الطفل، ورغم ذلك رغب في مساعدته، فوضع سلاحه جانباً، وأخذ يبحث مع الطفل عن عبوات الرصاص المعدنية بين الركام، ويسترق النظر بإعجاب إلى الطفل المنهمك في عمله بجدية.
وتجاذب الرجل والطفل الحديث، ثم تبادلا المزاح، وضحكا معاً، وعندما قال الطفل:
-عندما أكبر سأحمل السلاح وأقاتل من قتل أبي.
تجهم وجه الرجل غير الحليق، ثم جلس على كومة من أحجار الأبنية المتداعية، وأشعل لفافة تبغ من النوع الرخيص، ثم قال:
-فكر في أن ينتهي القتال..
وأردف مستنكراً:
-هل أنت سعيد بما يجري الآن؟!.
حدق الطفل في السماء الرمادية، وقال بأسف:
-لم أعد أذهب إلى المدرسة منذ شهور.
-يجب أن ينتهي القتال ويعود جميع الأطفال إلى المدارس.
قال الرجل، ثم ابتسم ابتسامة حزينة، وأضاف بود:
-جمعنا ما يكفي.. اذهب واشتر الخبز لإخوتك.. الشمس بدأت بالمغيب.
-أجل..
أجاب الطفل، ثم أردف برجاء:
-ستكون هنا غداً؟.
-ربما.. لماذا تسأل؟.
لم يرغب الرجل في إن يقول له أنه سيكون رابضاً مكانه إذا لم يُقتل. أجاب الطفل:
-سآتي غداً.. يوجد الكثير من الرصاص الفارغ هنا.
-حسناً.. إذا لم أغادر المكان فسوف أساعدك، وإذا لم ترني هنا فأبحث في مكان آمن، هذه المنطقة خطرة.
-ولكن فيها الكثير من الرصاص الفارغ..
قال الطفل ضاحكاً، وأردف وهو يضع الكيس الثقيل على كتفه:
-سأحدث أمي عنك.
-ما اسمك؟.
-شادي.
-أسرع إلى أهلك يا شادي، لاشك في أنهم ينتظرونك بقلق.
قال الرجل وهو يربت على كتف شادي.
-إلى اللقاء يا عم.
قال شادي، وأخذ يقفز فوق الأنقاض، وما كاد يبتعد مسافة قصيرة حتى سقطت على مقربه منه قذيفة، فدوى صوت انفجارها بقوة، وتصاعد الغبار.
هرع الرجل إلى حيث الانفجار، وجد شادي مطروحاً على الأرض وقد أصابته شظايا قاتلة مزقت جسده الغض، وأهدرت دمه على الأرض التي تناثر عليها الكثير من الرصاص الفارغ.
***
-أبي.. أبي..
صوت الصغير نبه الأب من ذكرياته التي لا تكف عن مداهمته من وقت لآخر.
-ماذا تريد يا شادي؟.
سأل الأب ولده، فقال الابن وهو يشير بيده إلى ساحة كبيرة فيها الأراجيح:
-أريد اللعب بالأرجوحة.
أمسك الوالد بيد ولده، وسار بقدم واحدة، واستعاض عن فقدان القدم الأخرى بالعكاز، وكان يفكر في أنه كان يقف في المكان نفسه الذي سقطت فيه القذيفة منذ أكثر من عشر سنوات وأودت بحياة طفل اسمه شادي.
قراءة وتعقيب (سمر تغلبي)
.
أربع سنوات ونيّف… والسوريون يعيشون مأساة ما عرفوها في سابق تاريخهم ولا تمكَّن خيالهم أن يتصوّرها يوماً…
أربع سنوات ونيّف … ومنظمات حقوق الإنسان مشغولة بالعدّ… عدّ القتلى والجرحى والمعاقين… عدّ اللاجئين والمشرّدين …عدّ الأطفال التائهين في الحارات والحرائر العفيفات المغتصبات… عدّ البيوت المهدّمة والصروح المحطّمة والفئات المشرذمة….
إحصائيات إحصائيات إحصائيات… وكأن حجم المأساة لايتجاوز حدود هذه الإحصائيات التي تطرح الإنسانية للبيع في سوقٍ للنخاسة…
لكنّ عمق المأساة لا يمكن لمقياس الإحصاء أن يقيسها …. فهي تحتاج مقياس ريختر من لحم ودم… من روح ووجدان… من آهات وصرخات ورعب….
وحدها ريشة الأديب قادرة على الوصول لهذا العمق… فهي تعدّ النبضات في القلوب … والدموع على الأهداب…
تعدّ رعشات الرعب في وجدان طفل… ونظرات الرجاء في عينيْ أمّ… وأشلاء عمرٍ تهاوى على مدارج الخوف…
عاش الأدباء مأساة الوطن فرسمتها ريشتهم بتفاصيل لاحدود لأبعادها… ليعيشها القارئ نبضاً في قلبه ودمعاً تخنّق في مآقيه… هذا فقط هو التوثيق الحقيقي لتاريخ قد يتعلّم منه الأحفاد …
قرأت كثيراُ مما يعبّر عن المأساة السورية … وكتبت الكثير… لكن من بين ما قرأت أو كتبت، لم أجد كنص الكاتب سامر الشمالي “الرصاص الفارغ” معبّراً عن عمق الإنسان في لوحة فسيفسائية تم رسمها في زمنين مختلفين…
الزمن الأول هو الزمن المعاش… زمن الحرب.. أما الزمن الثاني فهو زمن نحيا بانتظاره… زمن مابعد الحرب..
في زمن الحرب استطاع الكاتب رسم العديد من الصور الملتقطة من مشهد واحد… أبطاله: جنديّ وطفل وشهيد..
تلك الشرائح التي لطالما وُصفت معاناة كل منها منفصلة… فجاء الكاتب وجمع بينها في مشهد واحد…
الطفل الذي يجمع الرصاص الفارغ… والرّجل المسلّح الذي يصرخ به من خلف الجدار المهدَّم أن يقف مهدِّداً إيّاه بإطلاق النار … هذا التهديد الذي يعكس خوف هذا المسلّح من كلّ مايقترب ومن يقترب من مكان تواجده… فقد يكون هذا الطفل مستغَلّاً لزرع عبوة ناسفة في المكان… وإلا لماذا يعبث بيديه بين ركام هذه الأنقاض؟؟
خرج الرجل حذراً وطلب منه العودة إلى منزله…
["لم يعد لدينا منزل"]
تلك الجملة التي صدح بها الطفل رافعاً يديه متسمّراً في مكانه … حرّكت مشاعر ذلك المرابط على حدود الموت؛ فعلّق سلاحه على كتفه إذ اطمأنّ، وأخذ يحدّث الطفل بودّ… لقد ظنّه كما سواه من الأطفال… يلعب!!!
["اذهب والعب في مكان آخر... هذا المكان خطِر"]
ففي زمن الحرب إذاً… هناك ما يغري الأطفال باللعب…
الطفولة هي الطفولة … ستجد ذاتها ولو على أكوام الخراب…
لكن شادي لم يكن يلعب كما توقّع المسلّح ….. كان يجمع الرصاص الفارغ ليبيعه ويشتري خبزاً لإخوته!!!
ففي زمن الحرب إذاً… ثمّة وسيلة للحياة تُنتزَع من تحت أنياب الموت…
[-أين والدك؟.
-قتل الأسبوع الماضي.
-هل كان مقاتلاً؟.
-كلا.. كان عاملاً في مصنع الأحذية.]
فليس المقاتلون فقط هم الذين يُقتَلون… هذا عاملٌ يسعى للقمة عيشه فاغتالته أصابع حربٍ عبثية لاتفرّق بين مقاتل وعامل…
[فكر الرجل بأنه ربما هو من قتل والد الطفل، ورغم ذلك رغب في مساعدته، ]
هو مسلّح “مقاتل” وهذا يعني أن الكثيرين قد يكونون قد قضَوا برصاص سلاحه… وفي حرب الشوارع قد لايعرف المقاتل من قَتَل وفيمَ قَتل…
ومع ذلك رغب في مساعدة الطفل… وهنا اختفت شخصية المقاتل الذي [وضع سلاحه جانباً] وظهرت شخصية الإنسان…
[وأخذ يبحث مع الطفل عن عبوات الرصاص المعدنية بين الركام، ويسترق النظر بإعجاب إلى الطفل المنهمك في عمله بجدية.
وتجاذب الرجل والطفل الحديث، ثم تبادلا المزاح، وضحكا معاً،]
لكن من الطبيعي أن يرتعش عندما قال له الطفل: “عندما أكبر سأحمل السلاح وأقاتل من قتل أبي” ومع ذلك لم يعد لشخصية المقاتل في تعامله مع الطفل… وإنما وجّهه لما ينبغي أن يفكر فيه: “فكّر في أن ينتهي القتال”…
ولعلّ من الذكاء عدم تحديد انتماء هذا الرجل المسلّح… رغم التلميح لذلك من خلال قوله : “الرجل غير الحليق” ولكن هذا التلميح غير كافٍ لتحديد الانتماء لدى جمهور القرّاء على اختلاف البقع الجغرافية التي ينتمون إليها…
وهذا يوصل المقولة الأكثر شمولية : (داخل كلّ مسلّح إنسان… فلنخاطبه)..
[يجب أن ينتهي القتال ويعود جميع الأطفال إلى مدارسهم]
تلك كانت أمنيةٌ للرّجل وافق بها حسرة الطفل على مدرسته التي لم يذهب إليها منذ شهور….
ينتهي اللقاء بسؤال الطفل: [هل ستكون هنا غداً؟]
وجد الطفل في هذا الرّجل المسلّح أنساً يفتقده … وحنوّاً بات يعطيه لإخوته رغم احتياجه له.. هذا السؤال الذي وقع في وجدان الرجل.. إذ أنّه لايدري متى ستُنْهي رصاصةٌ وجودَه في هذا المكان… ومع ذلك لم يشأ أن يزرع الخوف في قلب الصغير فأجاب:
[حسناً.. إذا لم أغادر المكان فسوف أساعدك، وإذا لم ترني هنا فابحث في مكان آمن، هذه المنطقة خطرة.]
الرّجل يرقب الطفل أثناء مغادرته وعلى ظهره كيسٌ معبّأٌ بثمن خبزٍ ينتظره من هم أصغر منه….
وكأنّه يترقّب مغادرته ليطمئنّ عليه… لكنّه هرع ليودّع فيه أشلاء متناثرةً لجسد أبٍ طفل يحمل على ظهره قوت العيال!!!!
ماكان هذا الزمن هو زمن القصّة … لكنّه زمنٌ نعيشه نحن… ويراود بطل القصة في زمانه أخيلةً متناثرة ًكأشلاء ذلك الطفل…
لم تفارقه صورة شادي رغم انتهاء الحرب… لكأنّي به يعاند النسيان ويأباه ، فأطلق اسم شادي على ولده إمعاناً في معاندة تلك الصورة من أن تغادر الذاكرة…
لم يُقتل أبو شادي في تلك الحرب… لكنّه حمل وزرها عكازاً استُبدِلَت بها إحدى أطرافه…
فالحرب لا تنتهي دون أن تترك أثراً في كل من خاضها أو عاشها…
شادي يريد اللعب بالأراجيح … الأراجيح في ساحة كبيرة … تلك الساحة ذاتها التي كان يرابط بها منذ عشر سنوات شاهراً سلاحه في وجه كلّ من يقترب … ولايدري متى سيُقتَل…
تلك الساحة ذاتها التي ضمّت أشلاء طفلٍ يدعى شادي…
تلك كانت الصورة الأروع التي ميّزت تلك القصة عن كل ما قرأته فيما عداها…
قصةٌ في زمنٍ قادم … تحكي زمننا … وتستشرف الغدَ الأفضل…
كل هذا الدمار والخراب … تحوّل إلى مكان للعب الأطفال.. فالأطفال سيبقَون والطفولة لن تفنى … ولئن مات شادي فسيولد سواه .. ولن يبقى من الحرب إلا ذكراها وآثارها على أجساد وأرواح من عاشها… والدرس الذي تلقّوه ليلقّنوه لأبنائهم…
“نفنى.. ويبقى الوطن”
كلّ التّحيّة للكاتب المبدع سامر الشمالي وليعذرني إن لم أوفِ قصّته حقّها…
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق